* الــرضـــا
: هو الإشـــــــباع
* و
الإشباع يعتمد على عاملين : حدود
الإحتياجات ،، و وفرة المشبعات ،
- و
المشبعات عادة ثابتة في شأن علاقتها بالإحتياجات ، فإشباع إحتياج الجوع
الطعام ، و إشباع حاسة التذوق جودة مذاقه
،، إشباع حاجة الطمأنينة الأمن ، و إشباع
حاجة الإستقرار دوامه .
- في
حين أن الإحتياجات شديدة التغير من ناحية تطور كم الإحتياج أو ظهور إحتياجات جديدة ،
فإشباع
إحتياج المسكن بمنزل غالباً ما يتطور "فينمو نفس الإحتياج" إلى تمني منزل بمواصفات
أفضل ،، و بعد إشباع الإحتياج للتنقل بوجود سيارة "يولد إحتياج جديد" لم يكن مطروحاً قبل هذا
الإشباع ألا و هو وجود تكييف في السيارة .
* و
لذلك فالرضا أو (الإشباع) نسبي ، فلو إفترضنا تماثل وفرة
المشبعات عند مجموعة ما من البشر ،
-
فالرضا سيتفاوت لتفاوت حدود الإحتياجات ، و ذلك التفاوت قد يكون لظروف أصيلة في خلقة الإنسان ، أو تبعاً
لحقائق حياتية ثابتة ، أو مبنياً على أهواء شخصية غير قابلة للقياس ،
فلو
كان من تلك المجموعة طفل فسيحتاج إلى من يعيله و يربيه ، و لو كان منهم من هو مريض
البدن فسيحتاج إلى من يعينه في طريقه أو منزله ، لكن لو كان منهم من هو مريض النفس
فسيحتاج إلى أن يأخذ ما ليس له ليشبع حقده أو غروره .
*
إذا فالسر في الرضا لا يتعلق بعامل وفرة المشبعات وحدها لكن صلته الأوثق تكون
بحدود الإحتياجات ،
- و
تلك الحدود لشدة تفاوتها بين البشر (تبعاً للظروف الطبيعية أو للأهواء غير السوية)
فهي سر كل من "الرضا" و "الطموح" ، و كمال
"الرضا" يصنع السلام أو
الإستسلام ، و دوام "الطموح" يصنع الإبداع أو الإفساد ،
-
ذلك لأن علاقة الفرد بحدود إحتياجاته هي علاقة "إمتلاك" أو "تمليك" أو خليط منهما :
فمن "إمـتــلك" التحكم في إحتياجاته أصبح
رضاه بين يديه ، هو يمكنه أن يشعر بالإشباع بمجرد أن يضبط إحساسه الإحتياجي على ما
في يديه بالفعل ،
بل
قد يضبطه على ما هو أدنى من ذلك - كالزُّهاد - فيشعر أن ما يمتلكه الآن يشعره
بالوفرة و ليس فقط الإشباع ،،
و
تكون هذه القدرة في الأغلب نعمة
إن إستغلت مع الإشباع من الماديات فتؤدي إلى السلم مع النفس و
الغير ،، و قد تكون نقمة إن أدت بصاحبها إلى
التكاسل و بالتالي ترك الكد ، أو إلى التواكل و ما يتبعه من خسَّة ،،
أما
إن مورست القدرة على ضبط الرضا مع الإحتياجات المعنوية فتكون في الأغلب نقمة تؤدي إلى ترك فعل الخير من
باب الإكتفاء من الثواب ، أو سبباً لمذلة النفس بالإستسلام للظلم ،، لكنها أيضاً
قد تؤدي إلى نعمة مثل ترك إرضاء الناس بالباطل
لكسب ودهم .
و من
"مــلَّــك" نفسه لإحتياجاته فستصير هي
بوصلته و نبراسه ، و يؤدي به ذلك دوماً إلى الطموح "لمشبعات" جديدة ، ففي الأصل فطرة
النفس الإنسانية هي الطموح إلى الأكثر ، الأكثر راحة أو أماناً أو متعةً أو مكانة ،،
و
كما أن هناك من يستطيع أن يتحكم في حدود إحتياجاته فهناك من يكون إحتياجه هو سيده
و آسره ،،
و في
هذه الحالة - منطقياً - ينطبق عكس ما سبق في شأن من ملك هو إحتياجاته من ناحية
القرب من الفضيلة أو البعد عنها :
فإمتلاك الإحتياجات المادية لك يجعلك أكثر دأباً على توفير
الإشباع إما - إبتدائياً - بأن تفسد في البيئة و
القانون و البشر لتلبي إحتياجاتك المادية ، أو - إستثنائياً - بأن تبدع وسائل و تخترع
أدوات جديدة ،،
و إمتلاك الإحتياجات المعنوية لك يجعلك مجاهداً أو زاهداً
أو مصلحاً أو متبتلاً تتحدى الواقع و
مغرياته لتغيره إيماناً بقيمة تتملكك مثل دفع الظلم أو نشر العلم أو سيادة الفضيلة
أو الإستعداد للآخرة ، أو - بشكل أندر
- يجعلك منافقاً كاذباً تسعى لإشباع رضا الناس عنك و تقديرهم لك .
- و
ما سبق من أمثلة "إمتلاك" أو "تمَلُّك" لهي أمثلة متطرفة بين منتهى الخير و منتهى
الشر في النفس البشرية ، و هي لا تكون في البشر أبداً صافية متكاملة ، و حتى في الفئات
النادرة من الأطهار و الأراذل يوجد في كل نفس و لو بصيص من الشر او الخير حتى و لو
غلب صنف ما على عموم الطبع و التصرفات ، أما الأغلب و الأشيع في طباع السواد
الأعظم من الناس فهو خليط من كل ذلك ، و يتحدد صلاح نفس ما أو خرابها حسب نسب ذلك
الخليط من صفات الخير و الشر .
*********************
- و
قد يعتقد من لا يعون شرع الله أو حتى ضعاف العلم من المؤمنين أن قدرة المؤمن على
الرضا بالزهد في الإحتياجات الدنيوية قد يكسبه من الرذائل ما قد ذكرته من إنقطاع
جدواه للآخرين ، أو التواكل و الخسة ،،
فيعتقدون
أنه بإمكانه أن يغلق على نفسه صومعة و يعبد الله ، أو أن يعيش "صالحاً" في بدنه و بيته تاركاً "للإصلاح" فيما و من حوله فيكون عديم
النفع أو مستمرءاً للباطل ،،
هكذا
يعتقدون فقط لأنهم لا يعلمون أن المؤمن ملزم بما يمنع ذلك النمط من الحياة
الرهبانية بأوامر واضحة في شئون مثل : ( إتقان العمل ، و إعمار الأرض ، و السعي فيها ، و تحصيل العلم
، و طلب العزة لنفسه ، و لدين الله ، و دفع الظلم عن المظلومين في كل أرجاء الدنيا
، و الإستزادة الغير متناهية من الأعمال الصالحة ) ، و كذلك بنواهي قاطعة مثل
: ( النهي عن الإستكانة
للبطش ، و الظالمين ، و الدعوة لتغيير المنكر على قدر المستطاع ) ،،
بل
إن من مقومات الشرع ما يضمن حتى تحجيم الطموح الغريزي لنفس المؤمن إن هو قرر أن
يسعى وراء شهواته المباحة و ذلك بنواهي شديدة التكرار تنهى عن : ( الكذب ، و خيانة الأمانة ، و النفاق لإرضاء الناس من دون
الله ، و عن العدوان على الإنسان ، أو الحيوان ، أو الشجر ، أو الإسراف السفيه في
الماء ، و فيما سواه ) .
*********************
* و للإحتياجات
ثلاثة أنواع : ( أصيلة ثابتة ، حقيقية متغيرة ، و زائدة شديدة التفاوت ) :
- فالإحتياجات
الأصيلة : هي ما يؤدي إنعدام إشباعها إلى فقدان الحياة (للفرد أو النسل) أو فقدان الكرامة الإنسانية
، و هي "ثـابـتـة" لأنها غير متفاوتة على مر
الأزمنة و الأماكن ،،
و تلك الثوابت هي نفسها حقوق الحيوان من مأكل و مشرب و مأوى و
طبابة و تزاوج ، و يزيد عليها ما يحفظ الكرامة من ملبس و
خصوصية (شخصية و زوجية) و عدالة و حرية حركةٍ و معتقدٍ و قيامٍ بعمل مشروع .
و
إشباع "الحاجات الأصيل
الثابتة" يصل بالفرد إلى حد "الكــفــاف" ، أي أنه قد يستكفي به عما
فوقه من متع ، و أن ذلك الحد هو ما يضمن له حداً كافياً للحياة .
- و
الإحتياجات الحقيقية : هي ما تمليه الغرائز الإنسانية السوية الشائعة من حب
طبيعي للتنوع و التنعم ،، و هي "مـتـغـيـرة" بتغير الظروف من زمان و
مكان و حالة صحية :
فمن باب حب البشر الطبيعي للتنوع : فكمثال من منا يتحمل أن
يأكل كل يوم مثل اليوم الذي سبقه ، تخيل أن وجباتك الثلاث كل يوم من جبن و خبز و
زيتون !! بالتأكيد هذا يضمن لك غذاءاً يقيك الموت جوعاً ،،
لكن
الإنسان جبل على حب التنويع و التنعم ،، بعض الناس يحتاج أن يكون له أكثر من زوجة
مع أن واحدة تكفي كثيرين ،، كلنا لا نحب أن تكون ثيابنا خشنة مؤلمة رغم أن تلك
المنتجات الرديئة ستحقق الهدف الحقيقي للملبس من ستر و الوقاية من البرد و الحر
!!
و من باب أن تستجد إحتياجات بتغير
الظروف : فالذاهب إلى الحج اليوم مثلاً قد تكفيه دابة للإنتقال لكنه يحتاج
- لحقيقة تجهيزات الطرق و قوانين التأشيرات - إلى سيارة على الأقل ، من يعيش وسط
الثلوج قد يكفيه ثوب من كتان يحشوه ببعض بقايا الأشجار و الناس لكنه - لحقيقة وفرة
المتاح - يستحق أثواباً صوفية و فرو على الأقل ، من أصابه شلل في نصف جسده فهو
يستطيع أن يمشي بصعوبة لكنه - لحقيقة قدر تحمله الإنساني - يحتاج إلى كرسي كهربائي
على الأقل .
و إشباع كل "الحاجات الحقيقة
المتغيرة" يوصل إلى درجة "الــكــفاية" ، أي نهاية الحد الكافي
طبيعياً للإنسان من متع الدنيا بما يتناسب مع ما وضعه الله فيه من إحتياجات غريزية سوية ، و مع ما وضعه في
الكوكب من موارد .
-
أما "الإحتياجات الزائدة" فهي كل ما زاد عن حد "الكفاية" المستمد - كما أسلفت - من
مقدار التفاوت الطبيعي المسموح به في رغبات البشر و قدراتهم على التحكم في تلك
الرغبات ، و كذلك المستمد من مدى المجال المباح للإستهلاك بما لا يسبب الضرر للبشر
و للبيئة ،،
و
الإحتياجات الزائدة متفاوتة من حيث الكم و الكيف ،
فهي
قد تكون متنامية عن حاجة أصيلة أو حقيقية
(مثل الإسراف في الطعام و الجنس) ،
أو تعددية (مثل إمتلاك عدة سيارات و
يخوت و طائرات) ،
أو تطوير لغرائز مذمومة (السيطرة على
الأخرين ، حب التملق و المكابرة) ،
أو مستولدة من خيال الرفاهية المريض
(مثل هوس المنجمين ، الهوايات المكلفة مثل جمع الطوابع و العملات ، متع مشاهدة
التعذيب ) ،،
و
تتسم تلك الإحتياجات الزائدة أنه ليس لجنوحها
سقف ، فهي لا تنتهي ، و إن إنتهت يتم خلق الجديد منها ،
و
لهذا تقريباً لا نرى أي ثري في العالم توقف عن جمع المال مهما تضخمت ثرواته لتزيد
حتى عن حاجته في شراء أي شيء يريده ،،
دائماً
هناك "شيء" أندر أو "قدرة" أكبر يمكن العمل من أجلهما
!!
و مجرد الدخول في محاولات لإشباع تلك
الإحتياجات هو أول خطوة في "الإســـــراف"
، و التوغل في ذلك الطريق يقود إلى "البَـــطَـــر" ثم "الــسَــفــه"
فيمكنك
أن تسرف بشراءك منزلاً به سبع غرف
بينما أسرتك عدد أفرادها ثلاثة ،
و
يمكنك أن تبطِر نعمة المال فتشتري في كل
مدينة منزلاً تغلقه فقط لتسكنه أسبوعاً كل عام ،
و
يمكن "للسفه" أن يقودك إلى أن تخسر كل
تلك المنازل في جلسة قمار !!
*********************
* و
إذا حاولنا إستشفاف ذلك المفهوم في الفلسفة الإسلامية ثم تطبيقه على الواقع نجد أن
:
-
حفظ حد الكفاف متطابق مع مقاصد الشريعة الخمسة : (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال) ، و التي تعتبر الأهداف
الرئيسية من إقامة شرع الله في الأرض و لا يجوز بحال التفريط في إحداها .
- حد
الكفاف - على الأقل - كان حقاً أصيلاً للمواطن في عهد الخلفاء الراشدين ، و هو النواة المشتركة
لأفكار حقوق الإنسان عالمياً في العصر الحديث .
-
الفرد مكلف - وجوباً و ليس إستحباباً - بالسعي لتوفير حد "الكفاف" لنفسه ، فالتفريط فيه يعتبر
مخاطرة تعد من باب إلقاء النفس
في التهلكة و بالتالي لا تنطبق عليه كل توجيهات إستحباب الزهد في القرآن و السنة .
-
بينما العدوان لتوفير إحتياج فوق حد
"الكفاف" هو جرم لا لبس فيه ( كزنى المحصن و الرشوة ) ، إلا أن الفعل (الشبيه بالجرم) المقترف في مقابل توفيرحد "الكفاف" غير مجرم شرعاً و في أغلب
القوانين ،
فالذي يسرق ليسد جوعه لا يقام عليه الحد و على
ولي الأمر تعويض المضار من السرقة ،
و القاتل دفاعاً عن نفسه و ماله و عرضه لا
يقام عليه الحد ،
و الزاني الأعزب يجلد و لا يرجم فيما
أعتقده عقوبة على الإعتداء على عرض الآخرين و على أخلاقيات المجتمع و ليس على فعل
الزنى نفسه ،
و الله لا يؤاخذ الناطق بالكفر كذباً إن كان فعل ذلك ليدفع عن
نفسه القتل إن هو أعلن إيمانه .
- حد
"الكفاية" هو حد إختياري ،
هو مساحة الحرية الممنوحة للفرد ليطيع
شهواته بغير عقوبة ، أو ليكبحها بأجر إضافي من الحسنات ،،
لذلك
فهي مساحة من الفضل تركها الله لعباده
ليتنعموا بها ، إما في الدنيا بالسعي لتوفيرها ، أو في الآخرة بترك تحصيلها في
الدنيا .
و
لذلك تجد ما قد لا يعيه المنطق
البسيط من عشرات الآيات التي تبيح التمتع بنعم الله المباحة إلى جوار
عشرات الآيات الحاضَّة على الزهد و ترك الدنيا !
المنطق
البسيط لا يفهم كيف يخبرنا ربنا في نفس الآية أن {المال و البنون زينة الحياة الدنيا} ثم يتبعها بـ { و الباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً و خيرٌ أملاً} ! ،
لكن
المنطق الأعقد يفهم من ذلك ديناميكية
التوجيه في الشريعة الإسلامية ، فالأوامر و النواهي ليست جامدة كما في
القوانين العسكرية مثلاً ، لكنها مرنة لتتسع لأكثر من فهم و لتناسب أكثر من زمان و ظرف و
إستطاعة بشرية ،
المنطق
الأعقد يفهم أنها مساحة
للتفاضل و التسابق بين المؤمنين ، فالدنيا مسابقة كبرى ليس فقك للوصول
إلى الجنة بل و كذلك للترقي بين
درجات النعيم فيها ،
المنطق
الأعقد يفهم أنها مساحة حرية متروكة للمسلم ، فالمسلمون
ليسوا آلات تسير بأوامر حاسوبية شديدة التطابق ، لكنهم كائنات مخيَّرة عزيزة النفس أصلاً و ليس فضلاً .
-
"الإسراف" إثم شرعاً ، و "البطَر" كِبر و فُحش و فجور ، و
كلاهما مدخل للكفر بالنعمة و بمانحها ، و الإثم و الكفر أو الإيمان علاقة بين
العبد و ربه ، و عليه فالمجتمع لا يتدخل في إيقاف "الإسراف" و "البطَر" إلا إذا كانا إسرافاً في مورد عام ، فالناس في الإسلام شركاء في (الماء و الكلأ والنار) أي أن ملكية الموارد
المائية و ما تحويها و النباتات البرية و مصادر الطاقة هي ملكية مجتمعية ، و تتحول
إلى ملكية فردية على قدر الوفرة بما لا يتجاوز قدر الحاجة ، و على المجتمع أن يوقف
إهدار و إسراف الأفراد في تلك الملكيات العامة .
- و
"الســفـيـه" شرعاً يؤخذ على يده إلى أن يكُف سفهه عن نفسه و
عن الناس ، و قانوناً ينزع مال السفيه و المجنون و يقام عليهما وصي أو تكون الدولة
هي الوصي ، و المجنون يفصل في ذهاب عقله الأطباء أما السفيه فيترك أمر تقييم سفهه للقاضي مقارنة بأعراف المجتمع .
-
الأيديولوجيات الغير إسلامية نهجت في شأن حد "الإسراف" منهجين متطرفين :
فإما أنها تركت وضع هذا الحد لعجزها عن وضع تصور توافقي بين الناس لتعريفه أو لأن وضع ذلك الحد يتنافى مع
منظومتها الفكرية و المجتمعية (كالرأسمالية
الإستهلاكية مثلاً) ،
أو أنها
وضعته بشكل تعسفي جزافي لا يراعي إحتياجات
البشر (كما في الشيوعية) .
-
تحديد حديِّ "الكفاف" و "الكفاية" في الشريعة سواءاً بتوضيحات صريحة (كتفاصيل حقوق الزوجة و الأولاد ، و عدد الزوجات و تحريم
الحرير على الترتيب) ، أو بمعرفة ضمنية منقولة في السنة و السيرة (كشروط المتاع المتوافر في تزويج بنات رسول الله عليه و سلم) لهو جانب من جوانب رحمة
الله المتمثلة في إنزال الأديان ، هذه الحدود توفر على
البشر جهد و وقت التوافق على فكرة خلافية في سبيل تكوين تصوراتنا عن الحياة و
فلسفتها و بالتالي أسلوب الحياة المفترض ، خطوة كنا قد نقف عندها لنختلف ربما لمدى
الحياة لنصل إلى تعريفات ثابتة لها لأننا سنختلف عليها لمئات المرات إن فكرنا فيها
بعقولنا البشرية و نوايانا المتفاوتة ، و ما ان نقترب من التوافق عليها حتى يستجد
ظرف او تزيد عند أحدنا فكرة فنعيد جميعاً الكرة ببدء الحوارمن جديد ، و لنا في أمر
الخلاف على الدستور في كل الدول و خصوصاً عندنا
في مصر عبرة و عظة !
-
"الإسراف" الذي نهى الشرع عنه وجدنا اليوم أن في
ممارسته هلاك محقق للبيئة إما بإستنزاف مواردها أو بتلويث عناصرها ، نقطة تثبت أن منزل الشريعة هو صانع الكون نفسه ، فيوم نزلت لم يكن للإسراف
معنى مفهوم سوى ربما الإسراف في الماء ، و اليوم نعرف أهمية "ترشيد الإستهلاك" في كل شيء حفظاً للبيئة و
للإقتصاد القومي .
*********************
* و "الرضــا" هو الهناء بالمتاح و هو أسمى
مراتب الشعور نحو النعم ، وأدنى تلك المراتب "الــحـجــود" و هو كَفر النعمة ، و
بينهما "الــقــناعــة"
و هي صبر على الموجود مع كتم بعض الكراهة .
* و أنواع
الرضا متعددة :
-
فعلى حسب إتجاه الإشباع يمكن تقسيم الرضا لقسمين : رضا عن المحصول (ما يتحصل عليه الإنسان من
ربه عن طريق الناس و البيئة) ، و رضا عن
المفعول (ما يقدمه الإنسان لربه و لنفسه و للناس و البيئة)
- و
على حسب نوع الإشباع يمكن تقسيم
الرضا حسب الإحتياجات الأساسية إلى : رضا معنوي (روحي ، و عاطفي ، و عقلي
) ، و رضا مادي ( رضا جسدي )،،
فالرضا الروحي هو : إشباع حاجة إنسانية فطرية
من الإيمان بوجود إله راعٍ ، هذا الإحتياج موجود لدى كل المجموعات البشرية على مر
الزمان و منهم من أشبعه بفكرة عقائدية وضعية و منهم من أنعم الله عليه
بعقيدة منزلة في رسالة سماوية ،،
و الرضا العاطفي هو : إشباع غرائز الإنسان الشعورية مثل غريزة التواصل
الإنساني فالإنسان كائن إجتماعي ، و غريزة حب البقاء بالشعور بالأمن و كذلك
بالإنجاب ،،
و الرضا العقلي هو : إشباع الإحتياج الفطري
للعقل الإنساني للمعرفة و حب الإستطلاع و التجربة
بالمعارف العلمية (الطبيعية) ، و الإنسانية (النظرية) ، و الغيبية (الوحي) ،،
و الرضا الجسدي هو : إشباع غرائز الإنسان الحيوانية
مما يرضي الحواس الخمس (السمع و البصر و الشم و التذوق و اللمس) و يبعد عن الإحساس بالألم البدني ،، و من أشهر و أوضح
الغرائز الناتجة عن تراكب العنصرين السابقين غريزتي الجنس و الشبع .
- و كل
أنواع الرضا متصلة ببعضها بقدر أو بآخر و الفصل بينها شديد الصعوبة : فمثلاً : الرضا الجسدي من
الشبع قد يولد رضاً روحي بالشكر لله ، و الرضا العقلي كالوصول لحل مشكلة فكرية ما
يولد رضا جسدي كتأثير للهرمونات التي يفرزها العقل و الغدد في تلك الحالة .
*********************
- و
المنظومة الحياتية الإسلامية تُعنى - من خلال تشريعات ثابتة و متغيرة - بوضع حدي
"الكفاف" و "الكفاية" لأنواع الرضا السابقة ،
و
بالتبعية - كتطبيق لوسطية الفلسفة الإسلامية بين سائر الفلسفات - تُعنى أيضاً بالتشديد على
إستيفاء حد "الكفاف" و على البعد عن تجاوز حد "الكفاية" و الدخول في الإسراف ،
و تترك ما بين الحدين كمساحة مباحة للحرية الإنسانية تسمح
بالتفاضل بين الناس في الدنيا و الآخرة :
فحد "الكفاف
الروحي" هو : الإيمان بألوهية الله و بعثته لرسوله الخاتم ،
و
تجاوز حد "الكفاية الروحية" يدخل في ضلالات كالإعتزال للتعبد و بدع الصوفية من هلاوس التجسد و الوصال ،
و
بينهما مساحة واسعة من درجات الإيمان و التصديق بالغيبيات بما يسمو بروح
الإنسان لكن بما يحفظ عقله و يحفظ منفعة المجتمع منه .
و حد
"الكفاف العاطفي" : هو القدر الأولي من إلزام المسلم بالرحمة و لو بكف الأذى (المسلم من سلم المسلمون من لسانه و
يده) و كذلك بالتكافل (الزكاة) كأحد أركان
الإسلام التي يختل إسلام الفرد بدونها ،،
و حد
"الكفاية العاطفية" هو : ما لا يخل بترتيب الأولويات العاطفية فلا يجعل حب الدنيا و
كراهة الموت فوق العمل للآخرة ، و لا يجعل فتنة الزوجة و المال و الولد تقعد
الإنسان عن الصيام و الجهاد و الصدقة ،،
و
بينهما مساحة واسعة تتراوح من أول الجمود العاطفي إلى الرفق و اللين و
حتى رقة القلب و المشاعر المرهفة ،،
أما "الإسهال العاطفي الحاد" متمثلاً في الرومانسية
الدرامية فهو خرق لحد الكفاية العاطفية في الإسلام ، و مدخل واضح للإسراف المنهي
عنه في كل الأمور ، و سبب رئيسي في كثير من زلات أمتنا إجتماعياً و عقائدياً .
و حد
"الكفاف العقلي" حفظ قدر من
القرآن كافٍ للتعبد به في الصلاة ،،
لكن
حد "الكفاية العقلية" مرتفع السقف
بشدة حتى أنه يكاد لا يوجد إلا في نقطة واحدة فقط و هي : محاولة فهم الذات الإلهية ، و حتى هذه على محدوديتها
خلاف ،
و
بين "الكفاف
العقلي" و "الكفاية العقلية" عالم لا ينتهي من المعارف يدعو
الإسلام إلى تحصيلها كعمل يتَعبد به الفرد لربه ،
فأول
التنزيل في القرآن {إقرأ بإسم
ربك الذي خلق} يليها مباشرة معجزة إلهية قرآنية في الإخبار عن كيفية خلق الجنين {خلق الإنسان من عَلَق} يليها مباشرة رفع لقيمة
العلم بلإقراره كصفة للخالق و كمكرمة منه على عبيده { اقرأ وربك الأكرم ( 3 ) الذي علم بالقلم ( 4 ) علم الإنسان ما
لم يعلم ( 5 )} ،،
تلك
كانت أول ما أنزل من شريعة الإسلام ، و تلاها في القرآن وحده بضع و خمسون أمراً مباشراً للمسلمين بالسعي في الأرض ، و التفكر فيها ، و في الكون ، و في طبائعهما ، و في أحوال النفس البشرية ، و كذلك في آثار الأقوام السابقين .
و حد
"الكفاف الجسدي" هو - كما أسلفت سابقاً - الحد الأدنى من حقوق الإنسان و هو ما يتحقق به المقاصد الخمسة للشريعة من حفظ للدين و
النفس و العرض و المال و النسل ،
اما
حد "الكفاية الجسدية" فهو معرف بضوابط العلاقات الإجتماعية و الحدود القصوى
"للكفاية" في الزواج و الطعام و الموارد و التي يعتبر تجاوزها إسرافاً محرماً إما قطعياً (كالزواج من أكثر من أربعة) أو نسبياً (كالنهي عن ملىء المعدة بالطعام) .
*********************
* و تقاس
نسبة "الـــســعـادة" بمجمل محصلة أنواع الرضا
السابقة ، و على قدر نسبة السعادة يكون مقدار "الصحة النفسية" التي هي بإختصار "الرضا عن الحال" ، و علامتها سكينة النفس و
طمأنينة الجوارح (الإتزان الشعوري الجسدي) ،
- و
قد يطغى لدى إنسان ما أحد أنواع الرضا على الأخرى فيكتفي بأحدها
او بعضها ، فقد يكتفي العالِم بالكفاف في كل شيء و يشعر
بالسعادة فقط عند الإشباع العقلي ، و كذلك يسعد الزاهد مع الإشباع الروحي ،و الحالِم مع الإشباع العاطفي ، و الشهواني مع الإشباع الجسدي
ـ و
كون كل من "السعادة" و "الصحة النفسية" متعلقتان كلياً
"بالرضا" ، و كون المؤمن رضاه أوفر و أقرب ، يفهمنا ذلك سبب كون
المؤمن أصح نفسياً ممن سواه ، و يكشف لنا ذلك أحد أسرار سعادة المؤمن الدنيوية ،،
فالمؤمن
إحتياجاته الأعم و الأهم تتعلق بصلته
بربه ، و طريقة إشباع تلك الإحتياجات تجعله أقرب للحكمة و الخلق الحسن ، فهو يشبع إحتياجاته في
الصلة بالله بمفردات معظمها معنوية من تعلم و تدبر و تعبد و
إحسان إلى الناس و إصلاح في الأرض ،،
و المؤمن
يعرف أن "كل" ما يصل إيه و ما يُمنع عنه
من علم أو نِعم عاطفية و
جسدية مرده إلى القدر و إرادة الله فلا يجزع ، لذلك فالمؤمن أبداً لا "يجحد" النعمة لقلتها و لا "يجزع" لإنعدامها ، المؤمن في
الأصل قنوع ، و هو يقترب من الرضا كلما إرتقى في مراتب الإيمان ، لذا فالمؤمن رضاه قريب سهل لأنه
متعلق بعامل واحد فقط للرضا (رضاه عن قدَر الله
له) ، و قرب الرضا و يسره هذا ميزة للمؤمن و لمجتمعه في الدنيا فيقيه هو شر "الهم" و يقي من حوله "أذىً" قد كانت تسببه لهم شهواته
إن هو إتبعها .
*********************
* و
السعادة هي الغاية النهائية العظمى في الحياة عند كل إنسان عاقل ،،
-
فالملحد ككل إنسان مبتغاه الأسمى هو السعادة ، و يؤمن أنه يجب تحصيلها كلها قبل موته ، فيجري خلف إشباع
إحتياجاته جري الوحوش في البرية ، بل و يبحث كل حين في حياته عله يجد ما قد يبذل ما بقي له من جهد
لإشباع إحتياجات جديدة كان غافلاً عنها ، و من هنا تُخترع متع الحياة الجديدة التي - لكثرتها و تنوعها -
في عصرنا الحالي قد لا تلم حتى بأسمائها جميعاً !!
-
وضعيف الإيمان هو الأقل إستقراراً عقلياً بين البشر في الدنيا لذلك فحظه من
السعادة غالباً أقل ، فلا هو ملحد
تارك لشأن الدين بالمرة و متفرغ لعلم و متعة دنيويتان ، و لا هو متصل بربه ثابت الفؤاد لا يضيره البلاء و
لا تلهيه الإحتياجات ،، هو مشتت بين ذلك و ذاك ،، يتقلب بين تلمس الحق ليبذل في
سبيله الجهد و المال و بين تلمس العذر لنفسه للتقلب في الشهوات و ترك الواجبات .
- و
إذا أعملنا المنطق الإيماني المركب على كل ما سبق لفهمنا كيف للمؤمن - رغم
حرمانه من بعض المتع إجباراً أو إختياراً في الدنيا - أن يصل إلى السعادة الدنيوية
الكاملة ،،
يمكنه ذلك إن هو إنتقل بمراتب إيمانه من مجرد
"القناعة" إلى "الرضا" ،،
و هو حتى لو لم يدرك ذلك فما زال خياره - بترك
الشهوات المحرمة و زهد المباحة - منطقياً سليم ، لكن المنطق البسيط الذي يستخدمه
الملحدون أو ضعاف الحكمة من المؤمنين لا يفسر ذلك ، لا يفهمون كيف يتعمد المؤمن
إنقاص متعه الدنيوية كقربى إلى الله كالصوم و الصدقة و الزهد ، الملحد لا يؤمن
بالله فيعتبر ذلك "سفه و
بلاهة" ، و ضعيف الإيمان بيوم الحساب و الجنة و النار يحسب ذلك "تشدداً و مبالغة" ،
في
حين أن المؤمن الحق يرى فيه "إستثماراً
ناجحاً" بتحمل ترك متع قصيرة الدوام و بسيطة في مقابل الحصول على متع
دائمة و أكثر إشباعاً .
*********************
*
لكن سعادة المؤمن الدنيوية رغم ذلك كله و حتى لو وصل لدرجة الرضا ستبقى منقوصة في
حقيقة الأمر ،، تبقى منقوصة في جانبين ،
و في ذلك رحمة للناس ،
و لذلك النقص تعويض بحلاوة الفوز في مباراة
الدنيا التي تعلن نتائجها في الآخرة ليعلم كل فريق أكانوا على حق أم على باطل في
دار الإختبار ،،
سيبقى
المؤمن في خوف دائم من الإفتتان و الوقوع في الإثم سهواً أو جهلاً ، و ذلك سيدفعه إلى شك دائم في أفعاله ، و لكنه أيضاً سيكون دافعاً دائماً له للتفتيش عن الحق و تحري الصواب ، فالحكمة
ضالة المؤمن ،،
و هو
كذلك يعلم أن الحق الكامل لا يملكه إلا الله ، و سيجعل كل ما سبق من المؤمن شخصاً أقرب إلى العلم و البحث ، و أقرب إلى أخلاق العلماء بالبعد عن التكبر و إدعاء
كمال المعرفة .
و
سيبقى المؤمن في حيرة في دنياه بشأن قبول الله له و لجهده في الآخرة ، سيجعل ذلك حد " الكفاية" في رضاه عن جهده عالياً جداً لأنه لا يعرف حقيقة ما هي
الكمية المطلوبة من الحسنات للنجاة في الآخرة ، سيكون كمن يجري من خطر يلاحقه و
ليس لديه معرفة بسرعة ذلك الخطر ، حينها سيجري بأقصى ما يستطيع لأن تلك هي الطريقة
الأضمن لتحسين فرصه في النجاة ،،
و تلك الحيرة مع المعرفة بسعة رحمة
الله هي أهم أسباب التواضع لله الذي بيده قبول العمل إو إحباطه ، و بيده النعيم او
العذاب رغم صلاح العمل لأن العمل مهما عظُم لا يرقى ليكفي شكر النعم ،
لذا فتلك الحيرة من القبول أيضاً هي
أحد أهم الدوافع لصلة العبد بربه بالدعاء طلباً لقبول الله للعمل و إستعطافاً له ليزكيه
بما وعدنا به من رحمة .
*********************
* اللهم لك الحمد على أعظم نعمك : نعمة الإيمان و الصلة بك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق