الثلاثاء، 21 مايو 2013

حكايتي مع الهيليكوبتر بين حلب و بلبيس ومع الضبع الذي يرتدي فروة الخرفان،العقل مناط التكليف وليس الحواس و خلط العوام في معنى الأخذ بالظاهر








* أسكن في آخر طابق ببناية بجوار مطار حربي،
و كالعادة إنقطع عن منزلنا الكهرباء للمرة الثالثة هذا اليوم،
كنا في الليل فأجبرني إستعباد الحياة الحديثة أن أدخل إلى سريري محاولاً إستثمار الوقت في إراحة جسدي لأنه لا شيء أصبح يمكن عمله ليلاً بدون كهرباء !

تمددت أتصبب عرقاً فلا مراوح تعمل ، تناسيت هذا الدبق الذي يحيط بي و بدأ جفناي يتثاقلان و حينها أتتني هادمة اللذات لتنهي أملي في أي راحة مأمولة !
لا تأخذكم الظنون ، فهادمة اللذات لم تكن سوى هيليكوبتر حربية عتيقة في تدريب ليلي على بعد أمتار من سقف منزلي،

الهيليكوبتر قديمة فصوتها كألف غسالة ملابس بدائية من التي تسير من الحمام إلى الصالة في كل غسلة ،
كصوت مئة سيارة نقل صنعت في الستينات من التي تظنها عربة رش مبيدات من كثافة سحابة العادم الصادرة من شكمانها!

نحن في ليلة حارة دراسية مقطوع فيها الكهرباء ،
لذا لن تسمع في ليلة كهذه صيحات أطفال يتقافزون في الشارع و لا أصوات تلفزيونك و ثلاجتك ، لن تسمع ضوضاء الورشة في البناية المجاورة و لا صراخ الجيران لأنهم مفرهدين من الحر !
صوت الهيليكوبتر شديد الوضوح و مفزع كما لم أعهده من قبل ،
الهدوء كامل من حولي و الصوت يقترب من منزلي تحديداً بلا شك ، لو كنت مستهدفاً لأقسمت أن تلك الهيليكوبتر خرجت من هنجرها لإصطيادي أنا بالذات !

رغم كل ذلك لم أشعر بأي فزع أو خوف ، فقط كثير من الضيق لأن فرصتي في ساعة من نوم قد ضاعت،
ليس هذا لشجاعة خاصة أو لأنني كل يوم في معركة ،
لكني أنا و كل جيراني تعودنا الصوت فلم نعد نشعر منه بخوف،
الأطفال عندنا يصفقون و يلوحون للمقاتلات التي تعبر فوق رؤوسهم بعشرات الأمتار و هي تمطرنا بقنابل ضوئية غير ضارة أثناء حفلات تخرج دفعات الطيارين !


* الآن و بعد أن فارقني النعاس و ما زلت على فراشي الدبق تقافزت الأفكار و الذكريات في رأسي ، فتذكرت موقفاً مشابهاً لهيليكوبتر أخرى في بلاد أخرى كانت الكهرباء مقطوعة فيها كذلك ،
تذكرت مدينة حلب السورية !

تذكرت هيليكوبتر مرتزقة بشار الأسد و هي تحوم فوق مدرسة في حلب ، مدرسة هجرها تلاميذها فإستقرت فيها إحدى أشجع كتائب المقاومة السورية و تكرمت علي بإستضافتي هناك ،


كنا نجلس في فناء المدرسة المكشوف في وقت راحة بينما يعمل خبير بجوارنا على تفكيك دانات مدفعية غير منفجرة للإستفادة من محتوياتها في تصنيع ألغام أرضية ،
لا إجراءات أمان على الإطلاق و لا حتى الأولية السهل تنفيذها !! "الخبير" يجرب هل الصاعق مفجر الشحنة يعمل أم تالف بالطرق عليه و إنتظار سينفجر أم لا !!
البعض يراقب التلفاز ليعرف أخبار العمليات الحربية و الموقف السياسي و ينتظر خطاب رئيس مصر لعله يقول و لو كلمة تشعرهم أن لهم قوة ما في هذا العالم تنصر قضيتهم و لو بكلمة !
البعض الآخر ينظف سلاحه أو يحصي الذخيرة في المخزن ، و القليل مثلي يحتسي شرابه بعد وجبة غداء عبارة عن طبق مكرونة مسلوقة و بعض الفاكهة !

نعود الآن للهيليكوبتر ،،
جائت في أول ساعة دخلت فيها على هذه الكتيبة ،
كانت تحوم حول الحي كله هيليكوبتر حربية كبيرة ، تطير على إرتفاع عالٍ لتكون خارج مدى تأثير طلقات الرشاشات المتوسطة المضادة للطائرات ،
مع إرتفاع كهذا لا نكاد نسمع صوت الهيليكوبتر و لا نميز تفاصيلها ، كل ما يمكنك تمييزه هو مقدمة الطائرة من ذيلها و صوت دفعات إطلاق نار متقطعة ،
الشباب في الفناء رأوني أتأمل الهيليكوبتر و قد جعلت بيني و بينها معدة حديدية ثقيلة ،
أعلم من خبراتي في مستشفى حلب أن هذه الهيليكوبتر قاتلة بشكل فعال ،، إنها تسقط قنبل "براميل" التي إن تي على المنازل فتنسف عائلات في مذابح جماعية ، و رشاشيها الثقيلين على الأجناب يطلقان النيران بشكل عشوائي لإخافة المضادات الأرضية و في سبيل ذلك تقتل بلا تمييز من يقع في مجال إطلاق نيرانها !

أدخل لأرتدي درعي الثقيل و خوذتي و أسلحتي و أعود فيتندر الشباب الواثقون المسترخون في الفناء على ما نسجوه في خيالهم لنمط "الدكتور المصري" الذي أرعبته مجرد هيليكوبتر و يسألوني ماذا لو حدث قصف مدفعي أو صاروخي يا دكتور ؟!
يفاجئون أن "المصري اللين" يرد على المجاهدين بلسان "الدين" و أن "الطبيب" يرد على المحاربين بلغة "العسكرية" !
فأشرح لهم كيف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرتدي درعين في المعارك و هو من لا يخشى الموت ، فإذا فرطت و أنت مستطيع في حماية نفسك فأنت ملق بنفسك إلى تهلكة بغير سبب ، أما إذا فقدت حياتك ذاتها في دفع ضر أو جلب منفعة أمرت بها فأنت شهيد ،
ثم طلبت منهم بعدها أن يحمل كل سلاحه و يستعد منتظراً تحت كتل خرسانية و ليس في العراء فربما إضطررنا إلى إخلاء سريع لنبدء عملية كر على قوات قد تقتحم بعد هذا التمشيط الجوي ، أو لعملية فر نضطر إليها بعد قصف محتمل للمقر .

بعد لحظات من الدهشة إنصاع الشباب لأجزاء من الأمر فلم أكن سوى ناصح لهم و ليس لي عليهم إمرة ،
و هم - ككل عربي أصيل - يرون في الطاعة مذلة ، و في الحسابات المنطقية تنطع أو جبن أو قلة إيمان !

أتأمل الهيليكوبتر من جديد ، أتحسر على ضعف الحق و قوة الباطل في هذا الزمان ،،
أتمنى لو أن بلادي كانت أمدتني بصاروخ صغير مضاد للطائرات محمول على الكتف فأسقط تلك القاتلة و أحقن دماء مئات القتلى الأبرياء التي ستدكهم بقنابلها أو تفتت أجسادهم برشاشاتها !
أتذكر في نفس اللحظة أن بلادي لا يمكن أن تفعل ذلك طالما يحكمها المتآمرون و العملاء ، بلادي كل ما يمكن أن تفعله هو أن تفصلني من وظيفتي الحكومية بسبب الغياب المتصل كما أخبرني والدي في إتصال هاتفي في نفس اليوم !

بعدها أتجاذب مع الجميع أطراف الحديث ، فالمهتم بالسياسة أسمع منه تفاصيل جرائم عائلة الأسد في سوريا و أصف له حال الثورة المصرية و مواقف المصريين من الثورة السورية،
و المهتم بسبب وجودي بينهم أحاول أن أرفع روحه المعنوية بأن أخبره أن معظم شباب مصر يريد أن يكون معكم لولا تعذر ظروفهم المادية ،
و "خبير" المتفجرات أحاول أن أتأكد أنه يعي و لو أوليات بسيطة يمكن أن تمنع كوارث قد تنتج من تعامله الأرعن مع العبوات الغير منفجرة ،
مع الشباب الصغير أحاول أن أستمع إلى أحلامهم تارة و تارة أخرى أحاول أن أطلعهم على ما أعلمه من أوليات الخبرات العسكرية في التحرك و التعامل الآمن و الكفؤ مع السلاح الخفيف ،
و مع الجميع أحاول نشر بعض الوعي الطبي و السياسي و الديني عند شعب لا يدرك من الثلاثة أي شيء تقريباً بحكم الظلمات التي ضربتها عليهم عائلة الأسد لأكثر من خمسين عاماً !

و الجميع ،، الجميع بلا إستثناء يسألني المصريين يخرجون في مليونيات أحياناً بلا مطلب ،، لماذا لم تخرج مليونية واحدة للضغط لمصلحة الثورة السورية ؟ رئيسكم مرسي وعدنا بالنصرة لكنه حتى الآن لم يفعل أي شيء ! لماذا ؟
لا أجد جواباً سوى بث التفاؤل بأنه لا يجب أن تنتظر غيرك ليهدي إليك حقوقك إنما عليك أن تنتزعها بنفسك ، و أحاول أن أداري خجلي بأن أحكي لهم عن تعاطف المصريين مع قضيتهم و كيف يجمعون لها التبرعات و يرسلون إليهم بالمقاتلين !

ينتهي اليوم و أذهب إلى المستشفى لأبيت ليلتي في الإستقبال مساعداً طاقمه الطبي ، ثم أعود من جديد للكتيبة في الصباح مشاركاً الشباب في تحركاتهم إلى الجبهة و راحاتهم في المدرسة.

بعد أن راودتني تلك الذكريات قفز إلى عقلي إستنتاج بديهي لكني رأيت ان أشارككم فيه .


* هل تعلم لماذا سردت الموقفين اللذين عشتهما مع الهيليكوبتر بكل هذا التفصيل ؟
فعلت ذلك من أجل أن أستنتج سطراً واحداً :

( لا تحكم على الأحداث فقط بما تدركه "حواسك" ،، لكن قيم مجمل الظروف التي تحدث فيها بتحليل "عقلك" لما تدركه تلك الحواس )

في السطر السابق كل الفرق بين (القرار العقلي الإنساني) و (الردفعل المنعكس الحيواني) ،
و الأداة التي تستطيع تنفيذ هذا السطر لتحدث ذلك الفرق هي مناط التكليف و هي المميزة للإنسان عن الحيوان ،
هذه الأداة هي "العــــقل" .

تخيل موقفي الهيليكوبتر اللذين سردتهما سابقاً لو أننا تخيلنا أن هرة أو دجاجة هي من تعرضت لهما !!
هل كانت الهرة أو الدجاجة ستفزع أكثر و تضطرب و تحاول الهرب من الهيليكوبتر المقتربة بصوت هادر و التي تطير من و إلى المطار الحربي المجاور لمنزلي في مصر ، أم كانت ستخاف أكثر من الهيليكوبتر السورية القاتلة التي لا تكاد تسمع لها صوتاً أو حتى تميزها في السماء ؟!

الهرة و الدجاجة ستتصرف بناءاً على "حواسها" ،، الصوت المفزع بالتأكيد أكثر خطراً ، هكذا زرعت الفكرة في جينات فطرتها و في خبراتها المتعلمة الضئيلة ، هذه الفكرة ستجبر الحيوان على تنفيذ "رد فعل منعكس" هو الهرب كإستجابة لتهديد الصوت المخيف ، لكنها لن تغير مكانها لو لمحت طائرة تحوم في السماء أثناء فترة حرب !

الحيوان "مجبر" على أفعاله لذا هو غير محاسب عليها ، لكن الإنسان إبتلاه الله و أكرمه بالعقل و بإمكانية التفكير ثم إتخاذ القرار لذا فهو سيحاسب كإستحقاق لهذه القدرة ،
الحيوان يعيش بمجموعة "ردود أفعال" كل غرضها حفظ حياته و نسله ، أما الإنسان فيزيد على ذلك بقدرة على التحليل و الإستنتاج فالتعلم ثم الإبداع و غرض ذلك إعمار الأرض .


* أعتقد أنني لم أضف لمعلوماتك الكثير بالتفصيل السابق ،، لكني أحب أن أنبهك إلى نقطتين فيصليتين فيما أرى :

-  النقطة الأولى :

( أنت لست مخيراً في شأن إستخدام عقلك ) !
أنت منحته و إستخدامك له حق يجلب عليك الخير في العادة ، و عدم إستخدامه لن يعفيك من المساءلة !

عزيزي :

أدعوك لإستخدام عقلك ، و إستخدام عقلك أنت لا عقل غيرك ،
فكده كده إنت اللي هتحاسب عالمشاريب ،، سواءاً شربت أم لا ،، و سواءاً طلبتها بنفسك أو أوكلت غيرك في طلبها !!

و حسن الظن لا يعني التعامي عن الحقائق ، و لا الثقة في الآخرين تعني إلغاء عقلك ،،

أدعوك أن يتجاوز حكمك على الأمور قدر الحكم "بالمحسوسات" الظاهرة لسمعك و بصرك إلى قدر الحكم "بالمفهومات" التي يدركها عقلك ،
حتى تكن أقرب إلى فهم الحقائق و ليس مجرد جهاز تسجيل للصور و الأصوات !

فليس كل صوت مفزع خطير ،
و ليس كل هيليكوبتر تقترب من بيتك بالضرورة ستقصفه بصواريخها !
و ليس كل قاتل بعيد عنك خطره أقل !
و ليس كل صاحب لحية يدعي أنه يناصر شرع الله هو بالضرورة جندي فدائي في جيش العقيدة !

ربما كان الأخير صادقاً لكنه أحمق سيدمر ما يحب و يحرس مثلما قتلت الدبة صاحبها بحجر ثقيل و هي تحاول أن تحميه بإبعاد بعوضة عن جبهته !!

و ربما يكون دسيسة لكن أعداء الأمة إختاروا أن يدسوا السم في العسل فيجعلون رجلهم يشبهنا بل و يزايد علينا حتى نأمن إليه ، فيأتوننا من مأمننا كما يؤتى كل حذِر !!

لكن كثيرين يختلط عليهم الأمر ، فيحسبون أن التفكير في مثل ما أقول هو خيانة لأخوة العقيدة و الإنسانية لأننا أمرنا أن نحكم على الناس بالظاهر لا أن نفتش في الضمائر ،
و لمثل هؤلاء أوضح ما يلي :

- النقطة الثانية :

النوايا محلها القلب و لا يطلع على القلوب إلا مقلبها و علام الغيوب ، و أمرنا لذلك بألا نحكم على الناس إلا بالظاهر ،
لكن تذكر يا أخي أن للظاهر قسمان لا قسم واحد كما تفهم أنت :

فشطر من الظاهر – و هو ما تفهمه أنت – هو ما "أظهره الناس" من أنفسهم ،،
و شطر الظاهر الآخر – و هو ما غيبته من حسابك – هو ما "أظهرته الظروف" لك عن الناس من :

جودة أفكارهم ، أو ردائتها ،
حسن تخطيطهم ، أو حمقه ،
متسقة أفعالهم مع أقوالهم ، أم هم أهل نفاق أو عدم فهم ،
تتشابه أخلاقهم في العسر و اليسر ، أم يتلونون بإختلاف الحال ،
نادرة أخطائهم و عن سهو ، أم متكررة و متبجحة ،
و أخيراً جزء أصيل مما تظهره الظروف لك عن الناس هو نتائج أعمالهم أجاءت بخير أم كانت تربة و جذراً  لشجرة ظلم و فساد ؟!


و أخيراً من الدين و من ثقافتنا الموروثة أذكركم بقيمتين غائب فينا التوازن اللذي يأمران به إما بالإفراط في نصف المعنى أو التفريط في النصف الآخر :

( المــؤمن كــيِّــس فَــطِـــن )
( حــرِّص و لا تــخَــوِّنــش )


___________________________________________



سلسلة مقالاتي عن سوريا







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق